القصّة وأدب الطفل الفلسطينيّ | أرشيف

خليل السكاكيني (1878 - 1953)

 

 

المصدر: «مجلّة الأقلام».

زمن النشر: 1 آذار (مارس) 1979.

الكاتب: يوسف يوسف.

العنوان الأصليّ: «القصّة الفلسطينيّة والطفل»*.

 


 

يعتبر الأديب المرحوم خليل السكاكيني  (1878 - 1953) الأب الشرعيّ للقصّة الفلسطينيّة المكتوبة للطفل، إذ يمكننا أن نعتبره واحدًا من روّاد قصّة الأطفال في الأدب العربيّ المعاصر. وقصص السكاكيني بصورة عامّة مستمدّة من واقع الشعب العربيّ الفلسطينيّ في مرحلة التشرّد، وهي قصص تنويريّة تجمع بين خيوط الوعظ والإرشاد الدينيّ والتربية السليمة المستمدّة من روح التاريخ العربيّ.

ولعلّ من أبرز ملامح قصص السكاكيني أيضًا، أنّها تعتمد على الموروث الشعبيّ الفلسطينيّ، من حكاية شعبيّة أو أسطورة أو حكاية مرحة. إضافة إلى ذلك، أنّها مكتوبة بلغة واضحة ومعبّرة، قريبة من مدراك الطفل، ممّا كان من شأنها أن تقرّب السكاكيني من طفولتنا، ومن تلك السنوات الأولى من حضورنا المدرسيّ، خلال المرحلة الابتدائيّة الّتي تفتّح فيها وعينا على قيم الخير والإحساس بالنكبة، من خلال عشرات القصص الّتي كتبها السكاكيني، والّتي كانت تملأ كتب القراءة المقرّرة آنذاك.

لكنّ هذا لا يشير إلى رسوخ قصّة الطفل في الأدب الفلسطينيّ، فالقاصّ الفلسطينيّ ظلّ بعيدًا عن هذا الاتّجاه. ولم تظهر سوى محاولات متناثرة لا ترقى بهذا النوع من القصّة إلى مستوى المرحلة الّتي يمرّ بها شعبنا الفلسطينيّ. والنماذج الّتي وقع اختيارنا عليها، تختلف طرق معالجتها وفي الموضوعات الّتي تطرحها. بيد أنّها تلتقي جميعًا في نزوعها نحو التربية الجديدة، من خلال غرسها القيم الاجتماعيّة المثلى الّتي تلائم الواقع الّذي أعقب انطلاقة الثورة الفلسطينيّة، وما يتطلّبه من قيم الصمود والتضحية وحبّ الوطن. وإذا كان قسم من هذه القصص قد استمدّ مادّته من التاريخ العربيّ؛ ليبثّ من خلالها قيم البطولة والمقاومة والسير على هدى خطوات الأجداد لتحرير ودحر المعتدين، فإنّ القسم الآخر استمدّ مادّته من الواقع الحياتيّ المعاش [المحرّر: المَعيش]، بكلّ متناقضاته وأبعاده والأساليب الواجب اتّباعها لتجاوزه. وكان من الطبيعيّ أن تختلف هذه القصص في قدراتها التعبيريّة مثلما اختلفت في موضوعاتها وأساليبها.

وحسب موضوعاتها، قسّمنا هذه القصص إلى ثلاثة اتّجاهات؛ فقصص الاتّجاه الأوّل، على اختلاف مشاربها الفنّيّة، تستلهم نظرة الثورة للطفل، وتتمحور حول الصراع العربيّ– الصهيونيّ، أو صراع الثورة ضدّ أعدائها الداخليّين، لذا، فهي تصوغ الطفل على أساس ما يجب أن يكون عليه، لا كما هو كائن، وهي قصص تنويريّة وتثويريّة، واقعيّة أو تخيّليّة. وأبطال هذه القصص قد يكونون من الطيور والحيوانات، وربّما من الأطفال أنفسهم، أو من الكبار الّذين يخاطبون الطفل ولا يخدعون وجدانه وعقله. ويمتاز الاتّجاه الثاني بأنّه انتقاديّ اجتماعيّ، يستمدّ موضوعاته من الواقع الاجتماعيّ. وقصص هذا الاتّجاه تربويّة تعليميّة، تلتقط من العادات والتقاليد والقيم السائدة خيرها، فتعمل على تعميقه، مثلما تشير إلى الفاسد منها لتمحوه وتطرح بديله. إنّها قصص الخير والفضيلة ومقاومة الشرّ، قصص الطفولة المرجوّة في مجتمع تركت فيه آثارها الاجتماعيّة. أمّا الاتّجاه الثالث، فيستمدّ موضوعاته من التاريخ العربيّ الإسلاميّ.

وقصص هذا الاتّجاه تختار شخصيّاتها مِنَ الّتي لها حضورها القوميّ والبطوليّ، فتبعثها من جديد، لتوقظ من خلالها حواسّ الطفل، وتربّيه على الاعتزاز بآبائه وأجداده، الّذين سيجد فيهم القدوة المثلى.

 

الاتّجاه الأوّل... «عودة الطائر»

من قصص هذا الاتّجاه «عودة الطائر» لمعين بسيسو. بينما كانت الطيور عائدة إلى أعشاشها بعد أن ملأت حواصلها بالقمح، هبّت العاصفة وضربت الرياح العنيفة أحد الطيور، فسقط وقد تناثر ريشه في الهواء، وأصبح عاريًا. يتعرّض الطائر العاري لمجموعة من الطيور الجارحة، الّتي تحاول التهامه لكنّه يقاومها بجناحيه. وبينما المعركة تحتدم، تأتي الطيور الصديقة لتنقذه. وراح كلّ طائر يغرس منقاره في جناحه، وينتزع منه ريشه ليغرسها في الطائر العاري وجناحيه، وما أن استعاد جناحية حتّى فتحهما وعاد يواصل طيرانه مع الطيور.

يغطّي الزمن في هذه القصّة مرحلتين، الأولى تسبق هبوب العاصفة، والثانية تليها. وإذا كان للمرحلة الأولى من مميّزات، فإنّها تتّصف بحياة الاطمئنان، إذ إنّ العصافير تنطلق من أعشاشها باحثة عن الرزق، تعيش حياتها كما تريد دونما أيّ خطر. لكنّ ميكانيزم المرحلة الداخليّة للمرحلة التالية يختلف، وتخوض الطيور المعركة ضدّ أعدائها، وترفض الموت والالتهام. وهكذا، فإنّ الاستيطان الداخليّ للمعركة في المرحلتين يشير إلى أنّ الصراع في الأوّل، كان من أجل الحصول على لقمة العيش فحسب، بينما أصبح في الثانية صراعًا ضدّ الأعداء الخارجيّين، من الطيور الجارحة الّتي استغلّت هبوب العاصفة وضعف الطائر العاري.

والطائر العاري في القصّة رمز للصمود والمقاومة مثلما كانت الطيور الجارحة رمزًا للقتل والسلب والالتهام. ولم يستسلم الطائر العاري، وإنّما استعمل كلّ ما لديه من قدرات من أجل الإبقاء على حياته. وهو في ذلك اعتمد على ذاته أوّلًا، بالرغم من كلّ العوامل الّتي تشير إلى قهر مؤكّد. لقد ظلّ في البداية يحاول في مكانه، محافظًا على الموقع الدفاعيّ الّذي اختاره، فاستطاع في ما بعد أن يحوّل الصراع لصالحه. وبذلك، فقد كسب الفرصة الّتي منحته مشاركة الأصدقاء له في التصدّي للطيور الجارحة، والانتقال إلى مرحلة التحليق من جديد؛ فالقصّة من هذا المنطلق تبعث الأمل في النفس، وتسخر من كثرة الأعداء وضخامتهم. مقابل إبرازها لقيم العمل الجماعيّ، وتفجير كلّ الطاقات الممكنة. ولربّما تبدو مقاومة الطائر العاري في البدء ضربًا من العبث، لكنّنا سرعان ما نكتشف جدواها حين تكلّلت بالانتصار وصدّ الأعداء من الطيور الجارحة.

 

الاتّجاه الثاني... «باسم والموقف الجديد»

تطرح قصّة «باسم والموقف الجديد» لعزمي خميس، ضرورة مساعدة المحتاجين، ولا تتوقّف عند هذا، بل إنّها من خلال تعميق هذه الضرورة على مستوى القصّة، تشير إلى أنّ الصدق في التعبير والحياة لا يمكن أن يكون إلّا من خلال المعايشة الحقيقيّة.

حين يحاول باسم كتابة موضوع ’مساعدة المحتاج‘ الّذي كلّفهم به المعلّم، يجد صعوبة كبيرة في ذلك. الموضوع ليس بهذه الصعوبة، لكنّ باسمًا يفشل، وتخالطه أحاسيس الخجل، ماذا سيقول للمعلّم؟ ومع ذلك فإنّه لا يطلب مساعدة أخته الكبرى كما يفعل الآخرون، لأنّه يحبّ الصدق، ويحبّ أن يكتب ما يشعر به، وما يحسّ أنّه يعرفه معرفة جيّدة. لهذا لم يستطع كتابة الموضوع، فهو لم يقابل محتاجًا في حياته، ولا يعرف كيف يكون شعور المحتاج، ولا كيف يقوم الإنسان بالمساعدة. وفي طريقه إلى المدرسة، يلتقي بعجوز طاعن يرتجف، ويشعر بالعطف عليه، ويعطيه قطعة العشرة قروش الّتي تمثّل مصروفه اليوميّ، ويمضي واثقًا من أنّه سينجح هذه المرّة في كتابة الموضوع.

والكاتب إذ يتوجّه إلى الأطفال لغرس قيم الخير عندهم، فإنّه يفعل من خلال التأكيد على أهمّيّة هذه القيم على مستوى القصّة. وتظهر أهمّيّتها هنا من خلال المأزق الّذي يجد باسم نفسه فيه. ولكونه لم يساعد محتاجًا من قبل، فقد عانى كثيرًا، وما استطاع أن يكتب موضوعه لفقدان الإحساس الحقيقيّ. إنّ البحث عن الصدق الّذي يتمثّله باسم في مواضيعه، يكون هنا من خلال الانغماس في القيم الّتي تشكّل عناصر الموضوع. لذا، فقد بادر إلى مساعدة العجوز كي يكتشف بنفسه شعور المحتاج، والمعاني السامية الّتي تنطوي عليها مساعدة الآخرين. ولقد أعطاه هذا العمل فرحًا كبيرًا، وسعادة، ليس لأنّه سيستطيع كتابة الموضوع فقط، وإنّما لأنّه سيمارس الصدق مع نفسه.

إنّ ما جعل باسم يقدّم مصروفه اليوميّ لمساعدة المحتاج، هو حرصه على الصدق والنجاح. وعلى ذلك، فإنّ الكاتب وهو يغرس هذه القيمة – المساعدة – حقّق الشرط النفعيّ، المادّيّ للعجوز، والمعنويّ الروحيّ لباسم. والقصّة وفق هذه الرؤية تطرح نموذجًا يعي حقيقته، هو باسم، ولا يمتلك القارئ الطفل إلّا أن يتعاطف مع هذه الشخصيّة، لما فيها من صفات خيّرة مثل الاجتهاد، الصدق، الاعتماد على النفس ومساعدة المحتاجين.

تمتاز هذه القصّة ببنائها الجيّد، ولقد رسم القاصّ عزمي خميس الشخصيّة بمستوى الواقع، وهذا شرط هامّ في القصّة الّتي تحصر بطولتها في الطفل؛ إذ كثيرًا ما نجد قصصًا فاشلة يظهر فيها الأطفال بمستوى يفوق المستوى الواقعيّ لهم.

 

* نسخة مختصرة من المقال الأصليّ

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.